فصل: مطلب في معنى القدم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب في معنى القدم:

لأن القدم كل ما قدمت من خير وهو كناية عن العمل الذي يتقدم فيه الإنسان، وأطلق لفظ القدم على هذا المعنى لأن السعي والسبق يحصل به، فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وفي إضافة القدم إلى الصدق التنبيه على زيادة الفضل.
وقال بعض المفسرين المراد به الشفاعة وأنشد:
صَلِّ لِذِي الْعَرْشِ وَاتَّخِذْ قَدَما ** ينجيك يوم العار والزلل

هذا، وكل عمل صالح ثوابه قدم صدق لفاعليه {عِنْدَ رَبِّهِمْ} راجع قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} آخر سورة القمر في ج1، أي أن جزاء أعمالهم الحسنة مخبوءة لهم عند ربهم يوم يلقونه.
والقدم هو العضو المخصوص، وقد يراد منه التقدم المعنوي أي المنازل الشريفة قال حسان:
لنا القدم العليا إليك وخلقنا ** لأولنا في طاعة اللّه تابع

وقال الآخر:
لكم قدم لا ينكر الناس أنها ** مع الحسب العادي طمّت على البحر

وهذا القدم الذي يتخذ عند اللّه عز وجل هو ما يقدمه العاقل من أعمال صالحة بإخلاص صادق إلى ربه في دنياه ليدخرها له وينميها فيجد ثوابها عنده منازل رفيعة في جنة عالية دائم نعيمها، لهذا فإن كل فعل صالح وأمر طيب يسمى قدما من تسمية الشيء باسم آلته، وهذه الإضافة المشار بها آنفا من إضافة الموصوف إلى صفته مبالغة في تحقيقها، وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم أهله، إذ ليس للكافرين ما يبشرون به، بل لهم الإنذار والتهديد، وما جاء في بعض الآيات من لفظ البشارة لهم فهو من باب التهكم بهم قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} الآية 5 من سورة التوبة في ج3، أما الإنذار فإنه يصرف للفريقين المؤمنين والكافرين إذ قل من لا يستحق الإنذار {قالَ الْكافِرُونَ} لما سمعوا تلك الآيات البينات عتوا وعنادا {إِنَّ هذا} الذي تسمعونه من محمد ما هو إلا {سحر مبين} لا خفاء فيه على أحد وقرئ لساحر، وعليه يكون قولهم إن محمدا الذي يأتيكم بالآيات ساحر ظاهر سحره فلا تلتفتوا إليه، وذلك أنهم تعجبوا من أن اللّه تعالى كيف خص محمدا صلى اللّه عليه وسلم من بينهم وشرّفه برسالته إليهم، ويقولون اللّه أعظم من أن يكون له رسول بشر يتيم كيتيم أبي طالب، جهلا منهم بحقيقته صلى اللّه عليه وسلم فهو الذي لا ريب فيه لأحد من ذوي العقول الكاملة بأن له القدّنح المعلّى وفيه غاية الغايات ونهاية النهايات؟؟؟ واللّه سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وقد قال رائيه فيه:
وأحسن منك لم تر قط عيني ** وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كل عيب ** كأنك قد خلقت كما تشاء

وقال الآخر:
ولو صوّرت نفسك لم تزدها ** على ما فيك من كرم الطباع

وقال الأبوصيري:
فمبلغ العلم فيه أنه بشر ** وأنه خير خلق اللّه كلهم

ولم يعلم هؤلاء المتعجبون الذين طمس اللّه على قلوبهم أن الحظوظ الدنيوية لا دخل لها في مختارات اللّه، ولكن هذا ليس بكثير على من سلب اللّه عقله.
وقد لا تجتمع مع العقل، ورحم اللّه الإمام الشافعي إذ يقول:
ولكن من رزق الحجى حرم الغنى ** ضدان مفترقان أي تفرق

.مطلب معنى التعجب والتدبر والأيام الست والعرش:

هذا وإن التعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء خلاف العادة، وقد زعموا أن ضيرورة اليتيم الفقير نبيأ لم تجر به العادة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تهكما بهم.
قال تعالى يا أيها الناس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} تقدم البحث فيها في الآية 59 من سورة الفرقان في ج1، وله صلة في الآية 9 من سورة فصلت الآتية إن شاء الله: {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} المبسوط القابل لانعكاس أشعة أسمائه تعالى وصفاته، واستولى عليه استيلاء يليق بذاته، بلا أين ولا كيف ولا كم، بصرف النظر عما يتصور من معنى ثم في تراخي الزمن والمهلة، وقد تقدم تفسيره وما يتعلق به مفصلا في الآية 51 من سورة طه في ج1، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} كله فيهما مما يتعلق في جميع مكوناته العلوية والسفلية فلا يخرج شيء عن قضائه وتقديره مما يقع فيهما، ومن جملة ذلك اختيار سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم للرسالة ومعنى التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها وما ينتج عنها لتقع على الوجه المحمود، قال عليه الصلاة والسلام إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته، والمراد هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل {ما مِنْ شَفِيعٍ} يشفع لأحد {إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} لذلك الشفيع الذي يرتضيه ولا يشفع إلا لمن يرضاه راجع الآية 109 من سورة طه في ج1، وله صلة في الآية 255 من سورة البقرة في ج3، وهذا الشفيع عام يشمل الأنبياء والملائكة فمن دونهم، وقد جاء في معرض الرد لقول الكفرة بشفاعة الأوثان، فإذا كان الأنبياء فمن دونهم من كرام الخلق على اللّه لا يشفعون إلا بإذنه، وإلا لمن يرضاه، فكيف يتمنّى القول بشفاعة الأوثان التي كونتها أيديهم من أحجار وأخشاب وغيرها {ذلِكُمُ} الإله العظيم خالق السموات والأرض ومدبر أمورهما ومن فيهما المستولي على العرش العظيم هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ} أيها الناس سيدكم ومولاكم ومسوي أموركم {فَاعْبُدُوهُ} وحده شكرا لنعمه الظاهرة والباطنة {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} عظمته وجميل صنعه إليكم فتعتبرون وتتعظون وتنقادون لهذا الربّ الذي {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} لا إلى غيره ولا مصير لأحد دونه {جَمِيعًا} إنسكم وجنكم وملككم، وقد وعدكم بالبعث بعد الموت على لسان رسله {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} منجزا لا محيد لكم عنه {إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} يحييهم أولا كما أحيى أصلهم من العدم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} على حالته الأولى بعد إماتته كما بدأه {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ} العدل بحيث لا ينقص من أجر أحد منهم شيئا بل يزبده من فضله وكرمه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} كذلك يجزيهم على أعمالهم بالعدل، فلا يزيد على ما يستحقونه شيئا ولا يعذّبهم على ما لم يفعلوا، وهؤلاء الكافرون {لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ} ماء متناء في الغليان بدل ما كانوا يتلذذون به من الأشربة المحرمة في الدنيا {وَلهم عَذابٌ أَلِيمٌ} فوق ذلك لا تطيقه أجسامهم {بِما كانُوا يَكْفُرُونَ} بالدنيا باللّه وكتبه ورسله، وينكرون اليوم الآخر، وفي هذه الآية دلالة قاطعة على البعث بعد الموت والحشر والنشر والمعاد، وردّ صريح على منكري ذلك الإله العظيم {الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا} خصّ القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء الذي خصّه بالشمس لقوّته وكماله، وفيه إشارة إلى أن هذا النور مستفاد من ذلك الضياء، وهذه الاستفادة حاصلة من الشمس إلى القمر، سواء كانت على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرا كما في المرآة، أو بأن يستنير نفس جوهره بصورة يعلمها اللّه، راجع الآية 12 من سورة الإسراء في ج1.
و{قَدَّرْناهُ مَنازِلَ} يتنقل فيها بنظام بديع لا يتغير راجع الآية 39 من سورة يس في ج1 تعرف المنازل وغيرها، وإنما أعاد الضمير للقمر وحده لأن سيره في المنازل أسرع من سير الشمس، وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين المعتبرة شرعا لابتنائها على الأهلة، وما قيل إنه يرجع إلى الشمس والقمر معا، وإنما وحده مع أنه عائد لهما للإيجاز اكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} الآية 68 من التوبة في ج3 بدل ترضوهما إيجازا واكتفاء، إلا أن الأول أولى لموافقته لظاهر الآية، وللسبب المذكور آنفا المؤيد بقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ}.

.مطلب السنين الشمسية والقمرية وما يتعلق بهما:

والمراد بالسنين هنا القمرية التي هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما، وثماني ساعات، وثمان وأربعون دقيقة، راجع الآية 32 من الأعراف في ج1، على أنه لا مانع من أن تشمل جملة آية السنين والحساب السنة الشمسية أيضا التي هي ثلاثمائة وخمس وستون يوما، وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة أيضا، والفرق بينهما عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة بمقتضى الرصد الأليخاني، وكل من السنتين تكون بسيطة وكبيسة ولهذا يكون شهر شباط في كل أربع سنين تسعا وعشرين يوما إذ ينضم إليه فروق ثلاث سنين لانتظام الحساب الجاري، والأشهر العربية تكون ثلاثين، وتسعا وعشرين يوما للسبب نفسه، فتكون السنة القمرية بانقضاء اثنى عشر شهرا قمريا، والشمسية عند وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من البروج الاثني عشر التي ذكرناها أول سورة البروج المارة في ج1، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 16 من سورة الحجر الآتية إن شاء الله: {ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ} الضياء في الشمس والنور في القمر وجعل منهما معرفة السنين والحساب، وما أظهر ما أظهر منها وأوجد ما أوجد في عالمي للغيب والشهادة من مظاهر أسمائه وصفاته {إِلَّا بِالْحَقِّ} الموافق للحكمة البالغة، إظهارا لقدرته وبرهانا لوحدانيته وجعلها دلائل على عظمته، فلم يخلق ذلك باطلا ولا عبثا بل هي حق لا مرية فيه كسائر مخلوقات ذلك الخالق الجليل الذي {يُفَصِّلُ الْآياتِ} تفصيلا وافيا ويكررها تكريرا شافيا {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الحكمة التكوينية لهذا الكون العظيم المهمول فيستدلون على شئون مبدعها ويستنبطون منها البراهين على باهر قدرته ووحدانيته {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} من كون أحدهما مضيئا والآخر مظلما، وكون كل منهما يخلف صاحبه فيجيء وراءه متصلا به دون فاصلة ما، وأخذ أحدهما من الآخر بصورة تدريجية ساعات ودقائق، ثم يتلوه صاحبه فيرجع إليه ليسترد ما أخذه منه حتى يبلغ الغاية المقدّرة في الأزل، وهكذا كل منهما يعيد الكرة على الآخر دواليك بصورة منتظمة لا تختلف قيد شعرة منذ خلقها اللّه تعالى إلى الآن، وإلى أن يأذن بخراب هذا الكون {وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} من الكواكب السيارة والثابتة والبحار والأنهار والمعادن الجامدة والسائلة، مما عرفه الخلق ومما لم يعرفه بعد، والآثار الحكمة والخلائق المتنوعة {لَآياتٍ} واضحات عظيمات دالات على وجود الصانع لهذه المصنوعات المتقنة، وعلى كمال قدرته وبالغ حكمته، وعلى ما أنكروه من البعث بعد الموت، وما تعجبوا به من إرسال الرسل وإنزال الكتب بتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوي الردى {لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} اللّه ويحذرون عاقبة ما خوفهم به رسله، وخص المتقين لأن التقوى تدعو إلى النظر في عواقب الأمور والتدبر لنتائجها، وقد تحدو بهم إلى الفكر والتفكر في آيات اللّه والتذكر بها لتوصلهم إلى معرفة صانعها المكون هيكلها، فيزدادوا إيمانا وتصديقا وإذعانا، فينقادوا إلى اللّه ويؤمنوا برسله وكتبه واليوم الآخر، فيحصل لهم المقصود الذي خلقوا لأجله وهو عبادة اللّه تعالى القائل: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الآية 56 من الذاريات الآتية.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا} ولا يتوقعون حصوله ولا يخطرونه ببالهم لتوغلهم بالغفلة عن لتفطن إلى الحقائق الراعنة، لأنهم لا يعتقدون بالثواب والعقاب لإنكارهم اليوم الآخر فلا يخافون وعيدنا وتهديدنا الواقع على لسان رسلنا {وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا} المستعارة الموقتة دار البلاء والمحن التي لم تدم ولم تصف لأحد بدلا من الآخرة الدائم نعيمها دار السعادة والصفاء، وآثروا الأدنى الفاني الخسيس، على الأعلى الباقي النفيس {وَاطْمَأَنُّوا بِها} وركنوا إليها ومالوا بكليتهم عليها وسكنت لها قلوبهم سكون من لا براح له عنها، آمنين من اعتراء المزعجات غافلين عما أعد لهم من العذاب، فبنوا القصور الفخمة القوية، وأملوا الآمال المغوية البعيدة، فأزال ذلك كله الوجل من قلوبهم وصرفها في الملاذ والملاهي حتى أنساهم ذكر اللّه زخارفها، وصاروا بحالة لم يصل معها إلى قلوبهم ما يسمعون من الإنذار والتخويف والوعيد {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ} لا يتفكرون بها لاهون في ألعابهم، مقبلون على لذاتهم، معرضون عما يأتيهم من قبلنا {أُولئِكَ} الذين هذا شأنهم وهو مبتدأ و{مَأْواهُمُ} مبتدأ ثاني وخبره {النَّارُ} وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول والجملة خبر {إن} التي هي بصدر هذه الآية لذلك لا يوقف على {غافلون} ولو كانت إشارة الوقف عليها لأن الكلام لا يتم بها وإشارة الوقف عبارة عن فاصلة فمنها ما يتم بها الكلام فيوقف عليها ومنها ما يوقف عليها، فيرجع القارئ إليها فيصلها بما بعدها ويقف على ما يصح عليه الوقف، وهذا كثير في القرآن العظيم إذ لا يخفى أن الخبر محط الفائدة وهو الذي يوقف عليه لا المبتدأ، والمعنى أن الموصوفين المذكورين الذين لا يرجون لقاء اللّه مصيرهم ومثواهم نار جهنم جزاء {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} من الأعمال الخبيثة في الدنيا والجار من بما متعلق بمحذوف تقديره جوزوا بكسبهم القبيح وجاء الرجاء بصدر هذه الآية بمعنى الخوف وهو كثير بلغة العرب، قال أبو ذؤيب: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها.
أي لم يخفه والمراد من لقاء اللّه الرجوع إليه بالبعث بعد الموت والحساب المترتب عليه الجزاء بحسب الأعمال.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} في هذه الدنيا {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ} في الآخرة إلى الجنات العالية {بِإِيمانِهِمْ} الخالص المؤدي إلى ذلك، فتراهم على الطريق السوي في الدنيا مدة لبثهم فيها، ويجعلون بسببه في الآخرة بمكان {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ} أي من تحت منازلهم ومن بينها لينظروا إليها من أعالي أصرّتهم وشرفات قصورهم.
وقيل إنها تجري بين أيديهم وليس لشيء إلا أن يراد ما بين أيديهم (أمامهم) فإنه شيء يعتدّ به.
وقيل يهديهم نور أعمالهم لما جاء في الحديث أن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة، فيقول له أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار.
وفي هذه الآية دليل على أن مجرد الإيمان منج، إذ قال بإيمانهم دون أن يضم إليه العمل الصالح، وهو لا شك ينجي من التخليد بالنار ويدخل الجنة من لم يتمكن من العمل كمن أسلم ومات قبل أن يقدم عملا صالحا، فإذا أمكنه تقديم العمل الصالح فهو من باب أولى {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الدائم لأمثالهم، وحرف الجر هنا متعلق بتجري وهو حال من الأنهار {دَعْواهُمْ} دعاءهم وهو مبتدأ و{فِيها} متعلق به وخبره {سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ} أي أنهم يدعون اللّه تعالى وينادونه في هذه الجملة الدالة على التنزيه تلذذا بذكره تعالى لا عبادة، وانهم يقولون هذه الجملة كلما يعايتون شيئا من عجائب آثار قدرته ونتائج رحمته ورأفته {وَتَحِيَّتُهُمْ} فيما بينهم {فِيها} أي الجنة {سَلامٌ} أي يحيي بعضهم بعضا وتحييهم الملائكة في هذه الكلمة أيضا.
وقيل إن جملة سبحانك اللهم علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام، فإذا أرادوا شيئا قالوها، فيأنونهم بما تشتهي أنفسهم وتلذّ به أعينهم من الأطعمة التي لا يشبه بعضها بعضا في اللون والطعم والرائحة والآنية واللذة والكم والكيف والماهية والغداء.
فإذا فرغوا حمدوا اللّه تعالى على ذلك بما يلهمهم المنعم عليهم من أنواع التحميد والتقديس التي منها ما حكاه اللّه عنهم بقوله عز قوله: {وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} فترجع الموائد عند ذلك واستدل القائل بهذا بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريح قال: أخبرت أن أهل الجنة إذا مرّ بهم الطائر يشتهونه قالوا سبحانك اللهم، وذلك دعاؤهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فإذا جاء الملك بسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله: {وتحيّتهم فيها سلام}.
فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا الحمد للّه رب العالمين، وذلك قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
وهذا ترتيب ذكري بحسب الترتيب الوقوعي، إلا أنه خلاف الظاهر، والأولى ما ذكرناه، لأن أهل الجنة يبتدئون أمورهم كلها بتعظيم اللّه تعالى وتنزيه، ويختمونها بشكره والثناء عليه، ويتكلمون بينهما بما أرادوا مما يلقيه ربهم على قلوبهم.
أخرج مسلم عن جابر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون، قالوا فما بال الطعام يا رسول اللّه؟ قال جشاء (أي يخرج جشاء وعرقا) ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وفي رواية التسبيح والحمد.
وجاء في صحيح مسلم في وصف أهل الجنة يسبّحون اللّه تعالى بكرة وعشيا.